سورة يونس - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)}
اعلم أنه تعالى لما دعا عباده إلى دار السلام، ذكر السعادات التي تحصل لهم فيها فقال: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} فيحتاج إلى تفسير هذه الألفاظ الثلاثة.
أما اللفظ الأول: وهو قوله: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} فقال ابن عباس: معناه: للذين ذكروا كلمة لا إله إلا الله.
وقال الأصم: معناه: للذين أحسنوا في كل ما تعبدوا به، ومعناه: أنهم أتوا بالمأمور به كما ينبغي، واجتنبوا المنهيات من الوجه الذي صارت منهياً عنها.
والقول الثاني: أقرب إلى الصواب لأن الدرجات العالية لا تحصل إلا لأهل الطاعات.
وأما اللفظ الثاني: وهو {الحسنى} فقال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها، ولذلك لم تؤكد، ولم تنعت بشيء، وقال صاحب الكشاف: المراد: المثوبة الحسنى. ونظير هذه الآية قوله: {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60].
وأما اللفظ الثالث: وهو الزيادة. فنقول: هذه الكلمة مبهمة، ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها، وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين:
القول الأول: أن المراد من منها رؤية الله سبحانه وتعالى.
قالوا: والدليل عليه النقل والعقل.
أما النقل: فالحديث الصحيح الوارد فيه، وهو أن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى الله سبحانه وتعالى.
وأما العقل: فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف، فانصرف إلى المعهود السابق، وهو دار السلام. والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة، وما فيها من المنافع والتعظيم. وإذا ثبت هذا، وجب أن يكون المراد من الزيادة أمراً مغايراً لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم، وإلا لزم التكرار. وكل من قال بذلك قال: إنما هي رؤية الله تعالى. فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة: الرؤية. ومما يؤكد هذا وجهان:
الأول: أنه تعالى قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فأثبت لأهل الجنة أمرين: أحدهما: نضرة الوجوه والثاني: النظر إلى الله تعالى، وآيات القرآن يفسر بعضها بعضاً فوجب حمل الحسنى هاهنا على نضرة الوجوه، وحمل الزيادة على رؤية الله تعالى.
الثاني: أنه تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان: 20] أثبت له النعيم، ورؤية الملك الكبير، فوجب هاهنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين.
القول الثاني: أنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية.
قالت المعتزلة ويدل على ذلك وجوه:
الأول: أن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله تعالى ممتنعة.
والثاني: أن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤية الله تعالى ليست من جنس نعيم الجنة.
الثالث: أن الخبر الذي تمسكتم به في هذا الباب هو ما روي أن الزيادة، هي النظر إلى وجه الله تعالى، وهذا الخبر يوجب التشبيه، لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي. وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة، لأن الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك أيضاً يوجب التشبيه. فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية، فوجب حمله على شيء آخر، وعند هذا قال الجبائي: الحسنى عبارة عن الثواب المستحق، والزيادة هي ما يزيده الله تعالى على هذا الثواب من التفضل. قال: والذي يدل على صحته، القرآن وأقوال المفسرين.
أما القرآن: فقوله تعالى: {لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30].
وأما أقوال المفسرين: فنقل عن علي رضي الله عنه أنه قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة.
وعن ابن عباس: أن الحسنى هي الحسنة، والزيادة عشر أمثالها وعن الحسن: عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد: الزيادة مغفرة الله ورضوانه.
وعن يزيد بن سمرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم. فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم. أجاب أصحابنا عن هذه الوجوه فقالوا: أما قولكم إن الدلائل العقلية دلت على امتناع رؤية الله تعالى فهذا ممنوع، لأنا بينا في كتب الأصول أن تلك الدلائل في غاية الضعف ونهاية السخافة، وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأخبار الصحيحة بإثبات الرؤية، وجب إجراؤها على ظواهرها.
أما قوله الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه. فنقول: المزيد عليه، إذا كان مقدراً بمقدار معين، وجب أن تكون الزيادة عليه مخالفة له.
مثال الأول: قول الرجل لغيره: أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة، فهاهنا يجب أن تكون تلك الزيادة من الحنطة.
ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فهاهنا يجب أن تكون تلك الزيادة غير الحنطة، والمذكور في هذه الآية لفظ {الحسنى} وهي الجنة، وهي مطلقة غير مقدرة بقدر معين، فوجب أن تكون تلك الزيادة عليها شيئاً مغايراً لكل ما في الجنة.
وأما قوله: الخبر المذكور في هذا الباب، اشتمل على لفظ النظر، وعلى إثبات الوجه لله تعالى، وكلاهما يوجبان التشبيه. فنقول: هذا الخبر أفاد إثبات الرؤية، وأفاد إثبات الجسمية. ثم قام الدليل على أنه ليس بجسم، ولم يقم الدليل على امتناع رؤيته، فوجب ترك العمل بما قام الدليل على فساده فقط، وأيضاً فقد بينا أن لفظ هذه الآية يدل على أن الزيادة هي الرؤية من غير حاجة تنافي تقرير ذلك الخبر، والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما شرح ما يحصل لأهل الجنة من السعادات، شرح بعد ذلك الآفات التي صانهم الله بفضله عنها، فقال: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} والمعنى: لا يغشاها قتر، وهي غبرة فيها سواد {وَلاَ ذِلَّةٌ} ولا أثر هوان ولا كسوف.
فالصفة الأولى: هي قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 40].
والصفة الثانية: هي قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [الغاشية: 2، 3] والغرض من نفي هاتين الصفتين، نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم، ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات، وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه، ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة، ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع.
واعلم أن علماء الأصول قالوا: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فقوله: {والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام} [يونس: 25] يدل على غاية التعظيم. وقوله: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} يدل على حصول المنفعة وقوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} يدل على كونها خالصة وقوله: {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع والله أعلم.


{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة، شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية، وذكر تعالى من أحوالهم أموراً أربعة أولها: قوله: {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات، لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات، فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي إلا بالمثل، والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلاً وذلك حسن، ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة، وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات، فهو ظلم، ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير، لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته، ولو فعل الظلم لبطلت حكمته. تعالى الله عن ذلك، هكذا قرره القاضي تفريعاً على مذهبه.
وثانيها: قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وذلك كناية عن الهوان والتحقير، واعلم أن الكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته، فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات، فيكون شعوره بكونه ناقصاً، سبباً لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال.
وثالثها: قوله: {مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات، وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية، أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم.
أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم.
ورابعها: قوله: {كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً} والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26].
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا: المراد من هذا السواد المذكور هاهنا سواد الجهل وظلمة الضلالة، فإن العلم طبعه طبع النور، والجهل طبعه طبع الظلمة، فقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 39] المراد منه نور العلم، وروحه وبشره وبشارته، وقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 40] المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة.
المسألة الثانية: قوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على قوله: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} [يونس: 26] كأنه قيل: للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني: أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا يدل على أن حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل، وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل.
المسألة الثالثة: قال بعضهم: المراد بقوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر، بدليل قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} [آل عمران: 106] وكذلك قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 40- 42] ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 28] والضمير في قوله: {هُمْ} عائد إلى هؤلاء، ثم إنه تعالى وصفهم بالشرك، وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار، ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف هو معرفة الله تعالى، فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلاً، وكان الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول:
كل بيت أنت ساكنه *** غير محتاج إلى السرج وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج ***
وقال القاضي: إن قوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} عام يتناول الكافر والفاسق. إلا أنا نقول: الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه:
المسألة الرابعة: قال الفراء: في قوله: {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} وجهان:
الأول: أن يكون التقدير: فلهم جزاء السيئة بمثلها، كما قال: {فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ} [البقرة: 196] أي فعليه.
والثاني: أن يعلق الجزاء بالباء في قوله: {بِمِثْلِهَا} قال ابن الأنباري: وعلى هذا التقدير الثاني فلابد من عائد الموصول. والتقدير: فجزاء سيئة منهم بمثلها.
أما قوله: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} فهو معطوف على يجازي، لأن قوله: {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} تقديره: يجازي سيئة بمثلها، وقرئ {وَلاَ ذِلَّةٌ} بالياء.
أما قوله تعالى: {كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: {أُغْشِيَتْ} أي ألبست {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا} قرأ ابن كثير والكسائي {قِطَعًا} بسكون الطاء، وقرأ الباقون بفتح الطاء، والقطع بسكون القطعة. وهي البعض، ومنه قوله تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} [هود: 81] أي قطعة.
وأما قطع بفتح الطاء، فهو جمع قطعة، ومعنى الآية: وصف وجوههم بالسواد، حتى كأنها ألبست سواداً من الليل، كقوله تعالى: {تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] وكقوله: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} [آل عمران: 106] وكقوله: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41] وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين.
المسألة الثانية: قوله: {مُظْلِماً} قال الفراء والزجاج: هو نعت لقوله: {قِطَعًا} وقال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يجعل حالاً كأنه قيل: أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حال ظلمته.


{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار، فالضمير في قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} عائد إلى المذكور السابق، وذلك هو قوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} [يونس: 27] فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر، دل على أن المراد من قوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} الكفار، وحاصل الكلام: أنه تعالى يحشر العابد والمعبود، ثم إن المعبود يتبرأ من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرؤن منهم، وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار، ونظيره آيات منها قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] ومنها قوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 40، 41].
واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية، وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته، والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته، والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلاً وفاعلاً معاً، فما سوى الواحد الأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين، فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبوداً لغيره، بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق، وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته، فبراءة المعبود من العابدين، يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه. والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية: (الحشر) الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و{جَمِيعاً} نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم. و{مَكَانَكُمْ} منصوب بإضمار الزموا. والتقدير: الزموا مكانكم و{أَنتُمْ} تأكيد للضمير {وَشُرَكَاؤُكُمْ} عطف عليه.
واعلم أن قوله: {مَكَانَكُمْ} كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا، ونظيره قوله تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون} [الصافات: 22 24].
أما قوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} ففيه بحثان:
البحث الأول: أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله: {ثُمَّ نَقُولُ} وهو منتظر، والسبب فيه أن الذي حكم الله فيه، بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن، ونظيره قوله تعالى: {وَنَادَى أصحاب الجنة} [الأعراف: 44].
البحث الثاني: (زيلنا) فرقنا وميزنا.
قال الفراء: قوله: {فَزَيَّلْنَا} ليس من أزلت، إنما هو من زلت إذا فرقت. تقول العرب: زلت الضأن من المعز فلم تزل. أي ميزتها فلم تتميز، ثم قال الواحدي: فالزيل والتزييل والمزايلة، والتمييز والتفريق.
قال الواحدي: وقرئ {فزايلنا بَيْنَهُمْ} وهو مثل {فَزَيَّلْنَا} وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية: هو من زال يزول وأزلته أنا، ثم حكى عن الأزهري أنه قال: هذا غلط، لأنه لم يميز بين زال يزول، وبين زال يزيل، وبينهما بون بعيد، والقول ما قاله الفراء، ثم قال المفسرون: {فَزَيَّلْنَا} أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.
وأما قوله: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} ففيه مباحث:
البحث الأول: إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه:
الأول: أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام، فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال، فلهذا قال تعالى: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} الثاني: أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق، فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة، لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم.
الثالث: أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله: {مَكَانَكُمْ} صاروا شركاء في هذا الخطاب.
البحث الثاني: اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم: هم الملائكة، واستشهدوا بقوله تعالى: {يَوْمٍ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] ومنهم من قال: بل هي الأصنام، والدليل عليه: أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد، وذلك لا يليق بالملائكة المقربين، ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام. فقال بعضهم: إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها، فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام.
وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام، وهو ضعيف، لأن ظاهر قوله: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء.
فإن قيل: إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم؟
قلنا: الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن.
والقول الثالث: إن المراد بهؤلاء الشركاء، كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك.
البحث الثالث: هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين، فهل يكون تهديداً في حق المعبودين؟ أما المعتزلة: فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز.
قالوا: لأنه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه.
وأما أصحابنا، فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل.
البحث الرابع: أن الشركاء قالوا: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} وهم كانوا قد عبدوهم، فكان هذا كذباً، وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا، وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء، والذي نذكره هاهنا، أن منهم من قال: إن المراد من قولهم: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا؟ قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان:
الأول: أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا: {فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} والثاني: أنهم قالوا: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين} فأثبتوا لهم عبادة، إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة، وقد صدقوا في ذلك، لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور ألبتة. ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها.
وقالوا: إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها، ثم ذكروا فيه وجوهاً: الأول: أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة، فذلك الكذب يكون جارياً مجرى كذب الصبيان، ومجرى كذب المجانين والمدهوشين.
والثاني: أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم، ولهذا المعنى قالوا: إنهم ما عبدونا.
والثالث: أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات، ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أموراً تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11